الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

7) حياة بعد الموت: الروح

7) حياة بعد الموت: الروح

إنّ الإنسان وبسبب رغبته الشديدة والملحّة للحياة والعيش ابتكر مفهوم الحياة الأخرى، أو الإيمان بالحياة بعد الموت. والأحلام أيضاً بدورها لها دو كبير في تعزيز الإيمان بهذه الفكرة. لنتأمّل حالة الإنسان البدائي الذي يقطن الغابة. فخلال تفاعله مع الطبيعة فإنّه يواجه الكثير من الأسئلة التي يجد نفسه مجبراً على الإجابة عنها. ظلّه، أو انعكاس صورته على بركة الماء عندما ينحني ليشرب، صدى صوته، أحلامه، جميع هذه الأمور تتطلّب تفسيرات ملحّة. إنّه يبحث عن الجواب كما يفعل الطفل. هذه الأشياء هي جزء منه ومن ماهيته، إلا أنّها ليست منه في نفس الوقت.
يستطيع الإنسان المعاصر أو الحديث التعرّف على ظلّه أو انعكاسه على صفحة الماء، لكنّ الإنسان البدائي لم يكن يستطيع. جميع هذه الأمور كانت لغزاً بالنسبة له. كان ظلّه يتبعه أينما ذهب، وفي أحيان أخرى كان يغيّر شكله أو حتى يسبقه حتى. فظنّ أنّه جزء منه. وقد روى الرحّالة قصصاً وروايات عن شعوب أصلية في مناطق مختلفة من العالم تعتنق مثل هذه المعتقدات. لقد أخبرونا أنّ أفراد هذه الشعوب الأصلية عندما يسيرون بجانب النهر كانوا يمشون بحذر مخافة أن يسقط خيالهم في الماء، كي لا تتلقّف التماسيح خيالاتهم وتسحبهم في النهر.
هناك شعوب بدائية ما زال أفرادها يؤمنون أنّ أسماؤهم جزءاً لا يتجزأ من ماهيتهم. وهم يخفونها بحذر شديد عن الغرباء أو الأعداء مخافة استخدامها من قبلهم لإلحاق الأذى والضرر بهم. إنّهم يؤمنون أنّ صدى صوتهم هو صوت حقيقي. إنّ صدى صوتهم هو أناهم الآخر يتكلّم. فتكرار نفس الأصوات التي يصدرونها يعزّز هذه الأفكار والمعتقدات ويساعد على ديمومتها. إنّهم لا يعرفون شيئاً عن ارتداد الأمواج الصوتية. الصدى، الصوت الذي يسمعونه في بعض الأحيان، يعتبرونه تحذيراً من أناهم الآخر. والأحلام بالنسبة لهم ليست مجرّد خيالات من صنع العقل، إنّما هي تجارب حيّة وفعلية.
دعونا نأخذ على سبيل المثال سكّان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر. فعندما يخلد الهندي الأحمر للنوم فإنّه قد يحلم بأنّه يمضى في رحلة طويلة. رحلة صيد تستغرق معه عدّة أيام. يمضي في رحلته مع شخص آخر ويصطادان حيوانات كثيرة. لكن عندما يستيقظ وينظر حوله فإنّه لا يرى أيّة حيوانات ميّتة بجانبه. أدواته كلها _قوسه وسهامه، فأسه، وخنجر الصيد خاصّته_ بجانبه. كلّها نظيفة كما كانت عندما رقد للنوم في الليلة الماضية. إنّه لا يشعر بالتعب من السفر والترحال، بل يشعر بالراحة والانتعاش بعد الاستيقاظ من النوم. فاستنتج أنّه ليس هو الذي سافر لعدّة أيام، بل إنّه أناه الآخر، روحه، هي التي غادرت جسده خلال الليل. ومن ذلك الذي كان معه؟ إنّه زعيم القبيلة "جناح الصقر"، الذي مات منذ عدّة ليال. لكن من غير الممكن أن يكون ذلك هو "جناح الصقر" بلحمه وشحمه، إنّما هو أناه الآخر، عاد من عالم آخر. أمّا أرض الصيد، فليست ذلك المرج الكئيب تكنسه الرياح الذي كانوا يسافرون عبره خلال الأيام الماضية، بل مكان جميل، مليء بالطرائد. كان ذلك مرجاً تصطاد فيه الأرواح. وإذا كان "جناح الصقر" مثواه الأخير هناك، فذلك هو المكان الذي سيذهب إليه الجميع بعد موتهم، حيث سيقضون حياةً أبدية تملؤها السعادة في أرض الأرواح.
هنا يكمن الأساس الطبيعي لمعتقد ذلك الإنسان البدائي، في الثنائية: الروح، والحياة بعد الموت في فردوس يعيش فيه حياةً أبدية. لكن من أين جاءت هذه الفردوس؟ هل هي سهل اخترعه من بيئة مادية واقعية يعيش فيها ويتحرّك ضمنها؟ هل هناك مكان آخر يمكن أن تأتي منه؟ الهندي الأحمر مثله كمثل غيره من البشر. إنّه يخترع فردوس الخاص وحياته الأبدية وعالمه ما بعد الموت الخاص به، فهو لديه رغبته الخاصة باستمرار حياته بعد موت جسده إلى الأبد. إنّه يرغب بالصيد بين الوديان الجميلة، تجري فيها الجداول والأنهار الرقراقة والجبال الباسقة، أو في سهول ترتع بالجواميس، الغزلان، وغيرها من الحيوانات البرية الأخرى. إنّ "جنّة الصيد الخاصة به" هي، وببساطة شديدة، بيئته الأرضية المحيطة به كما تنعكس عبر عيون عقله. إنّه يؤمن بأنا آخر له يستطيع مغادرة جسده، روح لا تموت بعد موت جسده. لكنّها له من ذلك النوع من الأرواح المجرّدة أو المفارقة للجسد أو غير المتجسّدة التي يؤمن فيها مسيحيو اليوم. فروح الهندي تأخذ شكل الجسم البشري، جسم صاحبها. لديها أسنان وأظافر قدمين، ريش في شعرها، وتمسك فأساً في يدها.

عندما حاول الغزاة الأوروبيون إقناع الهنود الحمر باعتناق المسيحية لم يلقوا استجابة قوية من قبل السكّان الأصليين. الوعد بالسعادة الأبدية كان حقاً، وكان الهندي الأحمر يؤمن بذلك. لكن كيف شكل المكان الذي سيمضي فيه أبديته تلك، ها هو السؤال. أخبره المسيحيون أنّه سيصعد إلى السماء عبر سلّم ذهبي، ومن خلال بوّابة لؤلؤية سيدخل مدينة من الذهب الخالص. أخبروه أنّ الجواهر والياقوت والكثير من الثروات والكنوز المسيحية بانتظاره، وقيثارة ذهبية يعزف بها إلى الأبد. فأجابهم الهندي الأحمر: ((كلا، ليس هذا النوع من الجنان)). ولما لا؟ لأنّه لم يكن باستطاعته تخيّل هكذا مكان. فمجرّد فكرة قضاء الأبدية بهذا الشكل كانت تشعره بالنفور. لم تكن تثير اهتمامه أفكار مثل ارتقاء سلّم ذهبي وعبور بوّابة ذهبية. ربما لم يسبق له أن رأى سلّماً أو بوّابة. لم يكن هناك أياً من هذين الشيئين لا في البراري ولا في المروج. جواهر، لآلئ، ياقوت وغيرها من الأحجار الكريمة، كل هذه الأشياء لم تكن تثير اهتمامه. لم يكن يولي اهتماماً كبيراً بشأن هذه القمامات. ولم يلقي بالاً بفكرة الجلوس على غيمة ونشر أجنحته الملائكية والعزف على قيثارته الذهبية إلى أبد الآبدين. يا لها من أبدية بالنسبة لصيّاد أو محارب! رفض الهندي الأحمر وباحتقار شديد الفردوس المسيحي. لقد كان له فردوسه الخاص، وكان ينوي قضاء أبديته في صيد الدببة، الجواميس والحيوانات الأخرى على سهول وبين تلال أرض الصيد السعيدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق