16) الإصلاح
كانت البروتستانتية السّمة التي انطلت في النهاية على المذاهب التي جرى
إدخال الإصلاح عليها في المسيحية. كان البروتستانت معارضين ضدّ الاحتكار الروماني،
وزعم الرومان أنّهم الوحيدون القادرين على تفسير الكتاب المقدّس. لم يكن في نيّتهم
إقصاء الكنيسة الكاثوليكية، بل كانوا يريدون إصلاحها بما يتوافق مع مصلحتهم. لكنّ
الكنيسة كان من المتعذّر إصلاحها، إذ أنّها كانت مصرّة على أنّ الطبقة الحاكمة
القديمة، طبقة الأرستقراطيين، بالإضافة إلى الكنيسة نفسها، هم الوحيدون الذين
يمتلكون امتيازات. لذلك، ظهرت كنيسة مسيحية جديدة ونمت وازدهرت بالقرب من الكنيسة
القديمة.
ما هو التفسير التاريخي للبروتستانتية؟... كان البروتستانتية نتاجاً
طبيعياً لصراع طبقي جديد أخذ بالتطور في أوروبا. طبقة التجّار الجديدة، البائعين،
والصُنّاع، كانوا في أغلبهم من سكّان المدينة. تطوّرت البلدات وازداد عددها، في
حين أنّها في أيام الإقطاع كانت معدودة، ولا يتجاوز عددها عدّة مدن. نال
المواطنون، بعد صراع طويل، معياراً للحرية، لكنّ كانوا يريدون أكثر من ذلك. خارج
البلدات، في الأمم بشكل عام، اشتدّت قبضة الملوك والأرستقراطيين. فرضوا ضرائب
ثقيلة على المواطنين، الذين لم يعودوا عبيداً وخدماً لهم بل أصبحوا مواطنين،
وحكموهم بقبضة حديدية. كان مواطنو البلدات منجين صناعيين من الطراز الأول. وكانت
الثروة تتضخّم وتزيد بفضل جهودهم وإنتاجهم. لم يكن الأرستقراطيون منتجين، وكانوا
يمقتون العمل، إلا أنهم كانوا المستفيدين الأوائل من عملية إنتاج هذه الطبقة
الجديدة. لقد حصدوا ثمار العملية الإنتاجية لهذه الطبقة الكادحة عن طريق فرض
الضرائب والأتاوى وكل طريقة ممكنة كانوا يتعاملون فيها مع خدمهم وعبيدهم.
اشتكت هذه الطبقة الجديدة _الرأسماليين الأوائل، مليونيرية الزمن الحالي_
إلى الكنيسة. إلا أنّ تلك المؤسسة _التي تمتدّ جذورها الاقتصادية في ملكية الأراضي_
التي تعتبر من أكبر المؤسسات الأرستقراطية في تلك الفترة، كانت تمتلك حوالي ثلث
أراضي أوروبا، فانحازت إلى جانب الملوك والأرستقراطيين ضدّ طبقة الرأسمالية
الصاعدة. قالوا لهم بأنّ الملوك يستحيل أن يخطئوا أو يذنبوا، وأنّهم كانوا جزءاً
من الخطّة الإلهية لتعيينهم ملوكاً على الناس، وأنّ الأرستقراطيون يتمتّعون بحقوق
لحكمهم يستمدّونها من الله العليّ مباشرةً.
هكذا كان جواب الكنيسة، وكان نهائياً. ولم تكن تسمح بأيّة نقاش أو جدال.
ليس بوسع الرأسماليين سوى تحمّل معاناتهم وما كتبه الله لهم. لقد كان التنظيم
الاجتماعي في ذلك العصر إلهياً. كل شيء كان حسب إرادة الله ومشيئته. إلا أنّ
المواطنين، بعد أن تعلّموا القراءة والكتابة، قد بدأوا في البحث عن "أصل جميع
الحكم" بأنفسهم. فوجدوا الكثير في الكتاب المقدّس، وبشكل خاص العهد القديم،
لتبرير نظرتهم الاجتماعية. بدأوا بالتبشير ضدّ الحكم الملكي المطلق، وضدّ فكرة
عصمة الملك. وقد أدّى بهم ذلك إلى التشكيك بعصمة البابا نفسه. أمّا جواب الكنيسة
على ذلك فكان القمع والاضطهاد، محاكم التفتيش والموت لجميع من الكهنة والقساوسة
الذين انتهكوا عهودها. كان للبروتستانتية تاريخاً طويلاً من التضحية والشهداء. لكن
في النهاية حان عهد النصر بالنسبة لها.
كان الإصلاح اللوثري في ألمانيا يمثّل انتصار الطبقة الجديدة. لقد تمثّل في
تكيّف المسيحية مع الظروف والحاجات الاقتصادية للطبقة البرجوازية. كانت
البروتستانتية في بداية عهدها مجرّد كاثوليكية معدّلة. إلا أنّ الفلاحين، ذوي
الاحتياجات الاقتصادية المختلفة وفي بيئة مختلفة تماماً، قد طوّروا خلال عهد
الإصلاح مذهب بروتستانتي أكثر تشدّداً. فلم يكتفوا بالاعتراض ضدّ الكنيسة ومُلاّك
الأراضي فقط، بل ثاروا ضدّ احتكار أي نوع من الملكيات. لقد نادوا بمشاركتها
والتشارك بها. تمّ سحق المذهب القائل بتجديد العماد Anabaptism وأنصار كنيسته بقيادة
توماس منزر وغيره في زمن لوثر، من قبل الرأسماليين ومُلاّك الأراضي، هاتان
الطبقتان صارعتا لمحاربة الخطر المشترك الذي يهدّد بحرمانهما من امتيازاتهما. إلا
أنّ عملية التطوّر الاجتماعية مستمرة على قدمٍ وساق. فقد تطوّر المذهب اللوثري مع
تطوّر النظام الرأسمالي حتى أصبح يعبّر عن الحاجات الاجتماعية للرأسمالية في
مراحلها المتقدّمة.
في بريطانيا، كان الإصلاح عبارة عن كفاح استنزاف طويل الأمد. وأكثر المراحل
شهرةً خلاله كانت الحرب الأهلية الإنكليزية. فقد تمكّن أوليفر كرومويل وأشقّاءه
البروتستانتيين من القضاء على السلطة المطلقة للملك تشارلز الأول والإطاحة
بالأرستقراطيين الأسقفيين والكاثوليك القساة. لقد قطع رأس الملك على المقصلة
بالإضافة إلى سقوط الكثير من الأرستقراطيين في أرض المعركة. كان الإصلاح _مع أنّه
كان يرتدي عباءة دينية_ يمثّل صراعاً طبقياً شرساً. وقد تمّ خوضه من أجل مصالح
مادية. وعند انتصاره، انطلقت يد الرأسمالية، وكان على الأرستقراطيين احتلال مكانة
ثانوية، أو يتمّ القضاء عليهم نهائياً كطبقة. وهكذا كان مصيرهم بالضبط خلال
الثورة الفرنسية.
البروتستانتية هي الشكل الذي تأخذه المسيحية لنفسها تحت ظلّ الرأسمالية.
فهي تفيد في إضفاء صبغة قداسة على السرقات التي يقوم بها العبيد المأجورين. عبودية
المتاع أمر محتقر وبعيد عن المسيحية، والقنانة على نفس النمط، أمّا عبودية الأجر
فلا بأس بها. إنّ البروتستانتية، وبشكل عام الديانة المسيحية، تتناسب بشكل جيد مع
النظام الاجتماعي الحالي. فهي تعدُ العامل بالسعادة بعد الموت. وهذا ما يجعله
قانعاً بنصيبه الحالي في الحياة. المذهب البروتستانتي أكثر تعقيداً، وأقلّ
دوغمائيةً، ويناسب أكثر كأمل جديد للعمّال في زمننا الحالي. طبعاً لقد مرّ المذهب
عبر عملية تطورية طويلة الأمد، ولابدّ أنّ معظم مفاهيمه وأوجهه
"الدوغمائية" الحالية قد اعتُبِرت من قبل المستعمرين المسيحيين، "آبائنا
الحجّاج"، على أنّها من عمل الشيطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق