الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

5) المفهوم المادي للتاريخ

5) المفهوم المادي للتاريخ

والجواب الذي نقدّمه على السؤال السابق هو أنّ ((كافة الأفكار الإنسانية قد نبعت من البيئة المادية التي عاش فيها وتحرّك خلالها)), هذا هو جوهر مفهوم المادية التاريخية.
في مجتمع بدائي، حيث يكون الإنسان على احتكاك دائم مع بعض الأشياء ولا يستخدم سوى أدوات أو أسلحة بدائية قليلة، تكون أفكاره بدائية، ومحدودة جداً. أمّا في مجتمع متقدّم وعالي التعقيد، حيث يكون الإنسان على احتكاك مع عدد لا متناهي من الأشياء والمواد، أي أنّه ضمن بيئة معقّدة، عندها تكون أفكاره معقدّة، تحمل جوانب متعدّدة، وواسعة.
بيئة الإنسان المادية هي التي تحدّد ليس فقط نطاق أفكاره بل أيضاً سماتها وخصائصها العامة. فالقانون الأول للحياة هو "المصونية الذاتية". على الإنسان أن يأكل ويحمي نفسه من العناصر. إنّ نموّ أفكاره يتبع بشكل رئيسي تطوّر وسائل وأدوات تأمين العيش الاستمرار. والسؤال الأول الذي يطرحه الإنسان، السؤال الوحيد الذي بقي هو السؤال الأول بالأغلبية، لا يتعلّق بالطريقة التي جئنا من خلالها إلى هذا العالم أو ما قد يحدث لنا بعد موتنا، بل "متى سنأكل؟". ذلك هو السؤال الأبدي. قد ينكر المثاليون مثل هذه "النظرة الدنيئة" لكننا يمكننا الاعتماد عليهم لنكون على طاولة الطعام في الوقت المحدّد.
منذ عدّة سنوات مضت تمّ إجراء اختبارات وتجارب سيكولوجية ضمن سجن كبير. كان من المقرّر إعدام أحد السجناء المحكومين بالإعدام شنقاً، وفي ساحة المحكمة حيث يمكن لجميع السجناء مشاهدة عملية الإعدام. ما أن تمّ لفّ الحبل حول رقبة الرجل المحكوم واستعداد المسؤول لجذب العتلة لإسقاط المحكوم، كان مئات المساجين الذين يشاهدون عملية الإعدام من خلال نوافذ زنزاناتهم صامتين. وكان علماء النفس يراقبون باهتمام وعن قرب أثر المشهد عندما علا صوت أحد المساجين مطالباً بمعرفة موعد طعامه: ((متى سنأكل؟)), وتبع ذلك صياح واحتجاجات مطالبة بالفطور.
إنّ الطريق الذي سار فيه الإنسان، مسافراً عبر العصور، كان طريقاً اقتصادياً بامتياز. فالأخلاق، والمبادئ، الدين، السياسة، الحرب، الفنون، وكافة الإنجازات التي حققها الإنسان، جميعها تقوم على أساس الاقتصاد. حاول فقط أن تبتعد عن الاقتصاد وانظر إلى أي مدى يمكنك المضي. فعندما قال نابليون: ((الجيوش تسير على بطونها))، فهو قال نصف الحقيقة. فالجنود ليس هم وحدهم الذين بحاجة لأن يأكلوا. والحقيقة هي أنّ كامل المجتمع يسير على بطنه. وهذه حقيقة غاية في البساطة لكنّ أغلب الناس يغضّون أبصارهم عنها.
التنظيم الاجتماعي الحالي معقد جداً، البنية الفوقية الاجتماعية تخفي الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه. الكثير من الناس يشعرون بالأمان وباتوا يتغاضون عن حقيقة أنّهم يأكلون ويلبسون الملابس، وأنّ هذه الأشياء ينبغي إنتاجها من خلال العمل. لكن هناك الملايين من الذين لا ينالون أي فرصة لنسيان ذلك. إنّ المشكلة الاقتصادية تقف عند الباب. في المرتبة الثانية بعد هذا العامل مباشرةً _الاقتصاد_ تأتي العوامل المادية الأخرى، كالمناخ، الطبوغرافيا والخواص الطبيعية للبيئة التي يعيش فيها الإنسان. إذا كان المجتمع منطقة زراعية، أو مدينة صناعية، فإنّ لهذا الأمر تأثير مطابق ومنسجم على أفكار الشعب ومعتقداته. فجميع أفكار الإنسان، من أديان، أخلاق، سياسة، إلخ، ما هي إلا انعكاس للاقتصاد والبيئة المادية. فالدماغ يعمل كالمرآة تماماً. فهو يعكس جميع الأمور والأشياء المدخلة إليه من الوسط الخارجي. والحواس الخمس تقوم بنقل مستقبلاتها إلى الدماغ، "غذاء المخّ". يقوم الدماغ بهضم هذه المستقبلات التي استقبلتها الحواس ويحوّلها إلى أفكار. إذا أصبحت الأفكار مثبّتة تقريباً أطلقنا عليها تسمية آراء. فالدماغ لا يمكنه عكس ما هو غير موجود. فهو لا يعكس إلا الأمور الحقيقية والواقعية.
عندما يولد الإنسان يكون عقله صفحة بيضاء ناصعة لم يدوّن عليها أي شيء بعد. وأنا هنا لا أقول أنّ عقله خال، بل غير قادر على أداء عملية التفكير. في هذه المرحلة يكون محكوماً من قبل الغريزة وحدها. فهو يستجيب للجوع أو الألم. أمّا يقظة عقله تتبعها يقظة في الحواس. الحواس الخمس، الرؤية، السمع، الذوق، الشم، واللمس، يجب أن تُفَعّل أولاً قبل أن يكون من الممكن تجميع أيّة أفكار حول أي شيء في دماغ الطفل.
كافة الأكاذيب والخدع، جميع الخرافات والمخاوف، التي يكتسبها الطفل خلال نموه، هي نتاج بيئته. إنّها بمثابة "الهبات"، في أغلب الأحيان، التي يمنحها آباء مولعون لكن أغبياء لأبنائهم. فأي طفل عادي أو متوسط، أو حتى أقل من عادي، سيصبح ذكياً إذا اختلط نع أشخاص أذكياء. لكنّ نفس الطفل، إذا اختلط مع أشخاص أغبياء، فإنه سينمو وعقله مليء بالترّهات والأفكار الغبية، والخوف من الوحوش والعفاريت الخيالية. قد يقضي الطفل سنوات عديدة في الخوف من الكائنات الخفية والمخيفة والتي تعلّم الاعتقاد بوجودها والإيمان بها خلال تلك السنوات. وتلك هي الحالة دائماً عندما يكون الطفل سيء الحظ ويحظى بأهل أغبياء، أو أن يولد ويحيى ضمن بيئة متخلّفة، حيث تنتشر الخرافة والأوهام بين أفارد مجتمعه.
الحواس الخمس أشبه ما تكون بمسارات صغيرة تنقل مستقبلات الحواس إلى الدماغ. العديد من الناس يحملون أفكاراً غريبة حول طريقة عمل الدماغ ووظيفته. إنهم يضعون حول العقل سياجاً من اللغز والحيرة، في حين أنّ الدماغ ما هو إلا عضو طبيعي مثله مثل أي عضو آخر من أعضاء الجسد. وظيفة اليد، على سبيل المثال، تتمثّل في المسك والالتقاط، الكتابة وهكذا. ووظيفة القدمين هي المشي، الجري، القفز، وهلمّ جرا. ووظيفة المعدة هضم الطعام. أمّا وظيفة الدماغ فهي التفكير. لكن لا وجود لأيّة أفكار من دون مستقبلات حسية.
إذا لم يدخل المعدة أي طعام، لا يمكن أن تكون هناك عملية هضم. وإذا لم تدخل الدماغ أيّة مستقبلات حسية، فلا يمكن أن يكون هناك فكر. تنقل الحواس الخمس "غذاء الفكر". والعقل ببساطة هو عمل الدماغ ونشاطه، كما أنّ الهضم هو عمل المعدة ووظيفتها. تلك الوظيفة التي يقوم بها العقل والتي نسمّيها ذاكرة لا يمكن فصلها عن الدماغ، كما لا يمكننا فصل عملية الهضم عن المعدة. تلك الوظيفة للدماغ التي نسمّيها ذاكرة ما  هي إلا عملية تخزين للمستقبلات الحسية. صور لا حصر لها، أو صور فكرية، يتمّ تخزينها والاحتفاظ بها، بالشكل الذي كانت عليه، ليتمّ استخدامها مجدّداً عند الحاجة إليها، وفي أحيان كثيرة عندما لا نكون بحاجتها أو لا نرغب بتذكّرها حتى. هذه العملية تشبه عملية تخزين أعداد لا تحصى من الكلمات على جهاز التسجيل ليتم الاستماع إليها مجدّداً عندما نريد ذلك. وتبقى أشرطة التسجيل صامتة حتى نوصلها بالآلة التي تشغّلها وتصدر عندها تلك الكلمات عن طريق مكبّر الصوت. وذاكرتنا تبقى صامتة حتى يتمّ وصلها بالآلية العقلية، والتي نمتلك القدرة على تشغيلها عند الحاجة للتعبير عن المستقبلات الحسية المخزّنة، عن طريق الحديث، أو حتى الكتابة، وهلم جرا.
لا توجد صور فكرية في الدماغ إلا تلك التي يوجد لها مقابل في مكان ما من العالم الخارجي. بمعنى آخر، كافة الأفكار، مهما كانت معقدة أو غامضة، لها مصادر مادية خارجية، ويجب أن تكون مادية في أصلها. لا يمكن أن ينبثق الفكر من أي شيء إلا المادي. ولا يمكن أن ينبثق من لا شيء. وحتى الأمور والأفكار الخيالية، كبابا نويل على سبيل المثال، يوجد أصل مادي له في العالم المادي متجسّد في صورة رجل عجوز لطيف المظهر ذو لحية طويلة وبيضاء. أو كما يقول جوزيف ديتزغين فيما يتعلّق بالإيمان بالآلهة: ما هي إلا عبارة عن تركيبة فكرية لجسد أنثى يافعة ذات أجنحة على ظهرها. كلا الأمرين ماديان، الأجنحة والأنثى اليافعة.
هناك قصّة تروى عن رسّامي العصور الوسطى الكبار الذين كانوا يرسمون صوراً لملائكة على جدران الكنيسة. يقول أحد كهنة الكنيسة ضاحكاً على إحدى الصور: ((من قال أنّ الملائكة تطير وهي مرتدية صنادل؟)). فأجاب الرسّام على الفور ))ومن ذا الذي رأى ملاكاً لا يرتدي صندل؟))
إذا رأيت كابوساً وكنت تحلم بفيلة ذات أجنحة خضراء، أو أيّة خيالات وأحلام من أي نوع كانت، ومهما كانت خيالية، فيمكنك أن ترجع جميع هذه الصور الفكرية المركبة إلى مصادرها المادية. في الحقيقة، من المستحيل التفكير في أي شيء ليس له مصدر مادي. لم يكن هناك أي فكر في عقل الإنسان سوى ذلك الذي يمكن إرجاع أصله إلى الطبيعة ذاتها. لا يمكننا التفكير بلا شيء. حاولوا ذلك وانظروا بأنفسكم إلى أي مدى ستبلغون.
إلا أنّه ما زال هناك بعض الناس الذين يؤمنون أنّ الفكر متأصّل، أي أنّنا عندما ولدنا كانت أدمغتنا مجهّزة مسبقاً بمخزون معرفي كامل. هذه الفكرة غير منطقية على الإطلاق. فمذهب الأفكار الفطرية قد تمّ استبعاده الآن بشكلٍ كامل. هناك آخرون، في حين أنّهم لا يؤمنون بأنّ المعرفة متأصّلة في الدماغ البشري، نراهم يعذّبون أدمغتهم في البحث عن أشياء غير موجودة. إنّهم يعتقدون أنّهم إذا حبسوا أنفسهم داخل غرفة مغلقة فباستطاعتهم استخراج المعرفة من "أعماق عقولهم"، بطريقة أشبه باستخراج الماء من داخل البئر.
فالشيء الذي لا يدخل إلى العقل لا يمكن استحضاره منه. فإذا أردنا أن نمتلك معرفة حول موضوع معيّن علينا أن نعود إلى مصادره المادية ورصده بحواسنا، أو علينا الرجوع إلى الكتب أو وسائل أخرى لتحصيل تلك المعرفة التي عمل آخرون قبلنا على تحصيلها ومراكمتها باستخدامهم لحواسّهم وتسجيلها في الكتب.

ينبغي أن يتّضح أمام ناظريّ كل إنسان يمتلك ذرّة ذكاء أو عدم تحيّز أنّ البيئة المادية هي أساس ومصدر جميع الأفكار. والبيانات التالية التي أقدّمها حول بعض الأديان الرئيسية في العالم هي بغرض إثبات صحّة ما ذهبت إليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق