3) المفهوم اللاهوتي
يقوم المفهوم اللاهوتي للتاريخ على أساس الاعتقاد أنّ هناك كائن غيبي أو
كائنات غيبية خارقة تتجاوز العالم، سواء أكانت خيّرة أو شريرة، وأنّ جميع أفعال
الجنس البشري وأعماله ما هي إلا انعكاسات لإرادة هذه الكائنات الماورائية. لذلك،
فالتاريخ ما هو إلا سجلّ للمخطّط الإلهي الظاهر للأشياء.
إنّ مفهوم التاريخ استولى على الساحة لعصور عديدة. لكنّه بات اليوم حقلاً
مهجوراُ تقريباً. اللاهوتيون أنفسهم لن
يعودوا يدافعون عنه، حيث أنّه يضعهم في موقف عبثي. فإذا كان صحيحاَ أنّ الإنسان
يسير وفق إرادة إلهية، وأنّ أفعاله ما هي إلا جزء من خطّة إلهية، وإذا كان مقرّراً
منذ الأول أن يؤدّي أفعلاً معينة ولا يستطيع الخروج عن الحطّة والقيام بأفعال
أخرى، عندها يكون غير مسؤول بشكل مباشر عن أفعاله. القتل، الاغتصاب، السرقة وغيرها
من الجرائم والجنح الأخرى جميعها أعمال ليست من صنع يديه. فما هو إلا وكيل متواضع
وحقير ينفّذ مخطّط مشيئة إلهية أكبر وأقوى منه. يعبّر بنجامين فرانكلين في سيرته
الذاتية عن مفهومه على الشكل التالي ((والآن أنا أتحدّث عن شكر الله وحمده، أنا
أستحقّ بتواضع شديد أن أعترف بأني أنسب السعادة التي ذكرتها في حياتي السابقة
لعطاءه الإلهي المقدّس، والذي قادني لطرق ووسائل لجأت إليها وحقّقت النجاح. وإيماني
بذلك حثّني على الأمل، ومع ذلك لا يجب أن أفترض أنّ نفس الطيبة والنعمة ستستمرّ في
النزول عليّ بتلك الدرجة من السعادة أو تمكّنني من تحمّل انقلابها القاتل، والذي
قد أتعرّض له كما تعرضّ له آخرون، إنّ طبيعة ثروتي المستقبلية معرفة له فقط في
نطاق القوى التي يباركها، حتى على مآسينا)).
روبرت برنز بدوره يعبّر عن نفس المعتقد في صلاته:
((أيّها الخالق العظيم! الذي تعلّمني كلّ ما أعرفه،
إلا أنّي متأكّد، بأنّي أعرفك وأعرف جميع أعمالك على الأرض،
لكن إذا كانت معاناتي تحلّ بي من أجل أن تتناسب مع خطّة حكيمة
إذن قرّرت روحي أن تتحمّل بثبات دون أن تشتكي))
عاش كل من برنز وفرانكلين في نفس الفترة أو العصر، عصر الثورات البرجوازية.
خلال تلك الأيام، كان كلاهما من المثقفين المتقدّمين، لكنّهم لم يكونوا قادرين على
التخلّص من المفاهيم اللاهوتية للكون وحكمه الإلهي.
حسب المفهوم اللاهوتي للتاريخ، من المنطقي الاعتقاد بأني إذا ما قمت بقتل
شخص لن أكون أنا الملام. فليس بإمكاني القيام بأي شيء حيال ذلك طالما أنّ هناك
قوّة أكبر مني قرّرت بالنيابة عني بأن أنفّذ هذا الفعل. من جهةٍ أخرى، إذا كان
عليّ إنقاذ حياة شخص آخر، مقابل المخاطرة بنفسي، عندها لن أنال أي فضل بقيامي
بذلك، طالما أنّ الأمر محتوم مسبقاً. كم مرةً سمعنا الناس يردّدون عبارة ((إنّها
مشيئة الله)). إذا تمّ اعتماد هذا المفهوم اللاهوتي للتاريخ، عندها يعني ذلك أنّ
الإنسان ليس مسؤولاً بشكل مباشر أو غير مباشر عن أفعاله. فأفعال "الخير"
و"الشر" التي يقوم بها ليست أفعاله فعلياً. فما هو إلا عبارة عن أداة
حقيرة ومتواضعة تنفّذ أوامر إرادة أقوى وأعظم. أمّا معاقبته على أفعاله وتصرّفاته
هنا، أو في "العالم الآخر"، على ما اقترفه من أعمال ولم يكن بيده تجنّب
اقترافها، فهو موقف عبثي وغير قابل للدفاع عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق