18) الطبقة العاملة الملحدة
في حين أنّ الطبقة الرأسمالية بذاتها عاجزة عن التخلّص من قيود الجهل
والخرافة، إلا أنّ طبقة العمّال قادرة. طبعاً، هنالك العديد من الرأسماليين
المتحرّرين من الخرافة، إلا أنّ السواد الأعظم منهم لا يستطيعون التحرّر منها بسبب
نمط حياتهم. أمّا الأفراد الأكثر تقدّماً وثقافةً من تلك الطبقة غالباً ما يحرّرون
أنفسهم من الطقوسية ويتبنّون موقفاً أكثر "سعةً وتسامحاً" فيما يتعلّق
بالمسائل الدينية، لكن عندما يسألون ما إذا كانوا يؤمنون بإله غالباً ما يكون
جوابهم بنعم. وعندما تطلب من تحديد مواصفات أو سمات إلههم، فإنّهم سيعطونك أكثر
الأجوبة غموضاً وضبابيةً. وغالباً ما تتحوّل الأجوبة إلى تصريحات غريبة على نحو:
((هناك شيء ما، في مكان ما، موجود بشكل ما، هو علّة الوجود))... وهذا الكلام هو
الخطوة الأخيرة خلال الانحدار إلى مستنقع الخرافة. أغلب الناس لا يقدرون على تخليص
أنفسهم من هذا "الإله" الضبابي. ملايين العمّال بلغوا تلك المرحلة.
وباستطاعتهم المضيّ لأبعد من ذلك، لأنّهم يفتقرون للفهم العميق للأصل المادي للدين
وعملية تطوّره الاجتماعي.
والقسم الأكثر تقدّما ضمن طبقة العمّال، هؤلاء الذين يتقدّمون على زملائهم،
الذين نفضوا عن أنفسهم غبار الجهل وخلعوا عباءة الخرافة نهائياً. وأفضل سبيل
للوصول إلى هذه الغاية يمرّ عبر المعرفة العلمية _الرأسماليون بإمكانهم سلوك تلك
الدرب أيضاً_ وهو موجود ضمن نمط حياة طبقة العمال. نحن دائماً نقابل عمالاً بعيدين
كل البعد عن الثقافة أو المعرفة، لكن فيما يخصّ الدين، فإنّهم لديهم قناعة بأنّه
مجرّد ((ترّهات)).
وإذا سألتهم كيف توصّلوا إلى استنتاجاتهم اللادينية، تراهم لايستطيعون ذلك،
لكنّهم متأكّدون أنّ الدين مجرّد تفاهة. إنّهم يمقتون أولئك الذين يعظون ويتظاهرون
بممارسة المسيحية والالتزام بتعاليمها. قد يقبلون "الحسنة" عندما يكونون
جائعين، لكنهم يحتقرون الشيء نفسه بالإضافة إلى تجّار الحسنات الذين يتطفّلون
ويتدخّلون بشؤونهم المتواضعة.
قد يقوم الرأسمالي بفعل الصلاة، ويقول: ((أعطِنا خبزنا كفاف يومنا))، لكن
كما قال بول لافارغ بذكاء: ((ولا تعطِنا عملاً)). إلا أنّ العامل الحديث لا يؤمن
بالصلاة من أجل الخبز. إنّه يعلم حق العلم أنّه إذا لم يعمل فإنّه لن يأكل، بل
سيتضوّر جوعاً، أو يلجأ للتسوّل أو السرقة. إنه لا يؤمن بضربات الحظ. لا ينتظر
أقارب أثرياء له ليموتوا ويتركوا له ثروة طائلة. ارتفاع سوق الأسهم أو انخفاضه لا
يعني له شيئاً. كما أنّه لا ينتظر استجابة آلهة غامضة لصلواته. لقد علّمته تجربته
في الحياة أنّه لكي يأكل هو وعائلته، فعليه العمل من أجله وأجلهم واستحقاق خبزهم
اليومي عن طريق جهوده العقلية والجسدية. إذن نلاحظ أنّ أسلوب العامل في الحصول على
خبزه اليومي مختلف تماماً عن أسلوب الرأسمالي. قد يكون الأخير يحصد ملايين
الدولارات وهو يلعب الغولف أو يبحر في البحر على متن يخته... (فإلهه صالح بالنسبة
له). أمّا العامل على احتكاك متواصل مع العجلات الشحمية للآلة في موقع مختلف
تماماً. إذ عليه التخلّي عن ساعات طويلة من طاقة حياته القصيرة كل يوم في سبيل
الحصول على بضعة دولارات بائسة، لكنها ضرورية من أجل استمرار حياته وحياة عائلته.
العمّال الحاليون مختلفون عن عبيد الأرض في الماضي. الفلاح أو العبد الذي
كان يعمل في الحقول، على احتكاك بالطبيعة، لكنّه جاهل تماماً بعوامل الطبيعة
وطريقة سيرها، كان من المحتّم أن يكون مؤمناً بالخرافات. كان أمياً. وكان يؤمن
بأشياء وأمور سيضحك منها العامل الحالي.
فإذا نفقت بقرته أو حصانه، كان يقول: ((هذه إرادة الله ومشيئته)). وكان
سيظنّ أنّ ذلك عقاب من الله على ذنوبه ومعاصيه. وكان يهرع إلى الصليب أو الماء
المقدّس.
والعامل داخل المصنع الحديث لديه خبرة مماثلة. فعندما تتوقف آلته عن العمل.
لكنّ العامل لا ينسب ذلك لأسباب ماورائية غير طبيعية. إنّه لا يؤمن بأنّ الله له
علاقة بذلك. كما أنّه لا يهرع إلى الصليب أو الماء المقدّس، بل نحو علبة الزيت
ومفتاح الربط. إنه مادي بالممارسة. فهو ينطلق عادةً من السبب إلى النتيجة. وعندما
يدخل المصنع، فإنه يخلع عنه جميع مخاوفه والأمور التي تقلقه ويتركها عند الباب. فإذا
لم يتصرّف كمادي، فإنّه سيخسر إصبعه أو يده، أو ربّما حياته. إنّه يراقب باستمرار
الأسباب الطبيعية ويفكّر فيها مطوّلاً، إنّه في الواقع ليس لديه وقتاً لأي شيء
آخر.
وعندما يخرج العامل من المصنع، فإنّه يظلّ في بيئة ميكانيكية آلية تتفاوت
درجتها حسب البيئة. فهو يرى السيارات والدراجات تسير في كل مكان من حوله. قد يصل
إلى منزله بالقطار السريع. إنّه يستخدم الهاتف، ويستمع إلى الراديو، إلى الصوت
الخارج منهما من على بعد مئات وآلاف الأميال، محمولاً إليه عبر الأثير. يمكنه
إطفاء الأشياء وإعادة تشغيلها بكبسة زر. كل ما يفعله أو يتعامل معه يوازي، أو حتى
يتجاوز "المعجزات" التي وصفها الكتاب المقدس. إنّه يعلم ما يمكن فعله
وما لايمكن فعله. إنّه يشكّ بل لا يؤمن على الإطلاق بقيامة الموتى. فهذا لا يحدث
في هذه الأيام. بل إنّه يضعها بجانب قصص الجنّيات، العفاريت، جاك قاتل العمالقة،
وسانتا كلوز.
في حين أنّ البيئة التي يعيش ضمنها العامل تزيل الخرافات من رأسه وتساعده
على البحث عن سعادته في هذا العالم، وليس في أي عالم ما بعد القبر، إلا أنّها لا
تزيل من عقله _وبشكل كلّي_ فكرة أنّ النظام الاجتماعي الحالي بأحسن ما يرام. بل
إنّه عبارة عن تجربة أخرى من النوع المادي سيكون لها دور كبير في تنويره
اجتماعياً. إنّها تجربته الاقتصادية.
يثبت العامل المفكّر اليوم أنّه ينتج هو وأقرانه ثروة أكثر من الجيل الماضي
من العمّال. فالوحوش الميكانيكية العظيمة التي صنعها هو وأصحابه تطحن المواد الخام
وتحوّلها إلى منتوجات صناعية بسرعة قياسية. ومع ذلك، وبعضّ النظر عن الأشياء
الكثيرة والجميلة التي ينتجها بكميات هائلة، إلا أنّه يجد نفسه غالباً محروماً من
أساسيات الحياة. إذ يتمّ طرده من عمله من حينٍ لآخر. وكثيراً ما يجد نفسه عاطلاً
عن العمل، وفي كل مرة يفقد فيها احد أصدقاءه ورفاقه في العمل. إنّه يرى الملايين
عاطلون عن العمل ولعدّة أشهر. إنه يعرف أنّ في العديد من بلدان العالم هناك ملايين
العاطلين عن العمل وبشكل دائم، يتوقون للعمل لكنّهم لا يجدون فرصة. إنّه يلاحظ
أيضاً أنّ الرأسماليين، ملاّك الصناعات، لا يملكون الخبرة والتجربة ذاتها، بل
إنّها مختلفة عن تجربتهم وخبرتهم. بل إنّ الثروة تغمرهم هم وعائلاتهم. إنّه يراهم
وهم ينفقون ثرواتهم على الرفاهية والأبهة أكثر ممّا يكسب هو في عام واحد. ومن هذه البيئة
المادية التي يعيش فيها، من هذه التجربة الاقتصادية، يتعلّم العمّال أنّ النظام الاجتماعي
الحالي، بقدر ما يتعلّق الأمر بهم، هو نتاج الترس والعجلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق