الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

11) الأولمب

11) الأولمب

كان الإغريق، كغيرهم من الشعوب الأخرى، يريدون أن يعودوا إلى الحياة مرةً أخرى بعد الموت. وسندرس الآن المكان الذي كانوا يريدون الذهاب إليه بعد موتهم وماذا كانوا يريدون أن يفعلوا. إلا أنّ فكرة الحياة مرّةً أخرى بعد الموت، تذكّرني بقصّة رجل أيرلندي كان على وشك الموت. استدعوا له الكاهن فوجده يحدث ضجّة كثيرة وهو في طريقة لمغادرة هذه الحياة. فقال له الكاهن: ((تشجّع يا بات، تشجّع يا ولدي... فلن تموت سوى مرةً واحدة)) فأجابه بات المحتضر: ((الإيمان يا أبتي! إنّه الشيء الوحيد الذي يقلقني ويعذّب روحي. فأنا أرغب بالحياة والموت عدّة مرّات)). هنا نحن أمام حالة تعبير غريزية عن الرغبة في البقاء على قيد الحياة. جميع الناس لديهم هذه الرغبة في الحياة والإغريق لم يكونوا استثناء. بالتأكيد كان هناك من بين أكثر مثقفيهم وفلاسفتهم علماً ومعرفةً وحكمة من لم يكن يؤمن بالأمور الماورائية، ولا بالحياة بعد الموت.
عندما كان يموت الإغريقي، فإنّه كان يرغب بالصعود إلى الأولمب والعيش بين آلهته، ولم يكن فردوسه مجرّد مدينة، ولا مجرّد أرض صيد سعيدة، أو قاعة احتفالات وولائم، إنّما أشبه بحلبة ألعاب رياضية. هذه الجنّة لم تكن سوى عبارة عن انعكاس عقلي لحياتهم المادية، حياتهم وشؤونهم الدنيوية.
كان هناك بستان كبير وشاسع في إليس، في القسم الشمالي من ألفيوس، حيث كان يجري الإغريق منافساتهم وألعابهم الرياضية. هذه الألعاب هي نفسها الألعاب الأولمبية التي كانوا يقيمونها كل أربع سنوات. أمّا الفترة الزمنية الفاصلة بين هذه الألعاب، فترة الأربع سنوات، كانت تسمىّ بالأولمبياد.
كان الإغريق يعتقدون أنّ الآلهة كانت تراقبهم وتشاهدهم أثناء ممارسة ألعابهم الأولمبية من سباق القدم، إلى سباق الخيول والعربات، وأنّ الآلهة كانت تنحاز للمتسابقين وتشجّعهم وتفاضل بينهم. هكذا كان عالمهم الرائع. هكذا أرادوا أن يكون فردوسهم على هذا النحو، كمحبّتهم للطبيعة وللتمارين الرياضية. كان يرغبون في العيش على جبل الأولمب إلى أبد الآبدين بصحبة آلهتهم، وكانوا يؤمنون بأنّ حيواناتهم الأليفة والمفضّلة ستكون هناك معهم، وأنّ سباقات العربات وغيرها من التمارين والألعاب الرياضية ستستمرّ في حياتهم المستقبلية. طباً بعضهم آمن بوجود أكثر تعقيداً بعد الموت، لكنّ ما ناقشناه في الأعلى كان الاعتقاد العام والسائد.
وسّع الرومان إمبراطوريتهم وابتلعوا مع توسّعهم الإمبراطورية اليونانية. استولوا على فنون ومنجزات الحضارة الإغريقية كما أنّهم نقلوا أغلب أساطيرهم وميثاتهم. في بعض الحالات طوّر الرومان آلهتهم على أساس مفاهيم ومعتقدات إغريقية. لكن مع الامتصاص التام والكامل للحضارة اليونانية، نجد أنّ الآلهة الرومانية، بأسمائها المختلفة، لها نفس الصفات والمهام التي تتميّز بها الآلهة الإغريقية، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ البيئة كانت نفسها بالنسبة إلى الحضارتين، بالإضافة إلى الترابط التاريخي والاجتماعي بينهما.

هناك شيء واحد أكيد وهو أنّ جميع هذه المفاهيم اللاهوتية والثيولوجية كانت نتاج البيئة والحياة الاجتماعية للإغريق والرومان. كانت هاتان الناحيتان انعكاساً "روحياً" لحياتهم المادية. فأساس أفكارهم ومعتقداتهم مثلهم مثل أي شعب آخر من الشعوب التي تستمدّ أفكارها ومعتقداتها من حياتها المادية، وقد تطوّرت بناءً على تقدّمهم المادي. وفهم هذه الحقيقة بالذات يشكّل مضمون المفهوم المادي للتاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق