الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

14) أورشليم الجديدة

14) أورشليم الجديدة

إنّ البيئة التي عاش فيها الشعب اليهودي هي مصدر فكرتهم عن الحياة بعد الموت التي ستكون شبيهة تماماً بحياتهم على الأرض. فجنّتهم عبارة عن مدينة كبيرة، أورشليم السماوية. كانوا يؤمنون بأنّهم سيصعدون إلى السماء حيث البوّابة اللؤلؤية عبر سلّم ذهبي، ويسيرون على شوارع وطرقات من الذهب الخالص. في البداية سيمثلون أمام مجلس سماوي للمحاكمة، تماماً كما كانت حالهم على الأرض. فهم لم يأتوا بأفكارهم عن السماء والجنّة من خارج بيئتهم المادية. لقد قاموا ببساطة بأخذ نموذج أورشليم كما هي على الأرض وإسقاطها على السماء. لقد تحوّل الله من راعي قديم إلى قاضي حاكم، أشبه ما يكون بالقاضي سليمان، لكنه من نوع سماوي.
وهكذا فالمسيحية، في حين أنّ جذورها تمتدّ عميقاً في ميثولوجيا الشعب اليهودي، هي نتاج أوروبا. فقد نشأت وترعرعت في قلب الإمبراطورية الرومانية، وفي مدينة روما بالتحديد. ويمكننا العثور على الظروف المادية التي أسّست لظهور المسيحية خلال مرحلة انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها.
لقد أصبح عمل العبيد وفيراً جداً لدرجة أنّه أجبر الرومانيين الأحرار من الطبقة العاملة على ترك أعمالهم والتنحّي جانباً. فقد استولى العبيد على عقاراتهم. لذلك أصبح الرومان الفقراء في المدن الكبرى من دون عمل. حتى أنّه قد تمّ تحرير العديد من العبيد لانعدام الحاجة إليهم. كانت الدولة هي المسؤولة عن إطعام هذه الكتلة من العمال العاطلين. أمّا الدعاية الجديدة: المسيحية، التي أخبرتهم أنّ "العبد صالحٌ كسيّده"، قد لاقت الكثير من الإعجاب عند طبقة العبيد والجماهير العاطلة عن العمل. هذه كانت ديانتهم، الديانة التي تقول: ((طوبى للفقراء، فمملكتهم في السماء)). وقالت للطبقة العمّال العاطلون والمتضوّرون جوعاً ((طوبى للجوعى الآن، ستشبعون)). ولكبح العبد قالت له: ((طوبى للذين يبكون الآن، فهم سيضحكون أخيراً)). فالجنّة هي مكان للفقراء، وليس للأغنياء الجبابرة والطغاة. لقد بشّرت المسيحية: ((حقاً أقول لكم: أنّ الغنيّ لن يدخل الجنّة، فمن الأيسر أن يمرّ جمل من سمّ الإبرة، على أن يدخل غنيٌ مملكة الرب)).
سمع العبيد المحرّرون والبروليتاريون العاطلون في المدن الكبرى لهذه الدعاية من الدّعاة المبشّرين المسيحيين. لم يكن لديهم أي أمل هنا على الأرض. فالطبقة البروليتارية في تلك الأيام لم تكن مساهمة في عملية الإنتاج. لم يكونوا يشاركون في الأعمال. فأماكنهم ملأها عمال من طبقة العبيد. لم يعودوا يملكون شيئاً في هذه الحياة.
بينما طبقة البروليتاريين، طبقة العمّال المأجورين، هي من تملك مفاتيح المستقبل بأيديها. فطبقتنا [البروليتاريا] هي التي تواصل عملية الإنتاج. من تنظيف الأرضيات في المعامل الحديثة، إلى أعلى مدير تنفيذي فيه، الصناعة الآن مستمرة وقائمة بفضل العاملين غير المالكين، البروليتاريين، الأيدي العاملة المأجورة. بينما البروليتاريين الرومان كانوا مستبعدين تماماً عن عملية الإنتاج. لم تكن هناك آلات في تلك الأيام، باستثناء الآلة البشرية: العبيد.

كانت المسيحية، في بدايتها، ديانة للعبيد حصرياً. ومع مرور الوقت، قد أحكمت قبضتها على الجماهير وعامة الناس لدرجة لم تعد معها الطبقة الحاكمة قادرة على تجاهلها. حاولوا إخمادها بالنار والسيف، لكنّ كل محاولاتهم باءت بالفشل. كان الجوّ مناسباً لها. نضجت الظروف الاجتماعية وباتت جاهزة. لم يكن هناك نظام اجتماعي أعلى سيظهر للعيان خارجاً من العبودية الرومانية، كما لا يظهر أي شيء اليوم من عبودية الأجر. لم يكن أمام العمّال أي أمل على الأرض، بل كان هناك وعد بالسعادة فيما وراء القبر. كانت الإمبراطورية الرومانية بكاملها تموت وتتداعى. لقد اندثرت من الوجود بالكامل. لقد قام أحد الأباطرة _قسطنطين_ بما كان محتوماً. لقد اعتنق المسيحية. وتحوّلت بذلك المسيحية إلى دين رسمي، دين للسادة، وبقيت كذلك منذ ذلك الوقت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق