1) المقدّمة
عندما كنت على احتكاك بالحزب الشيوعي في أمريكا، في خريف عام 1910، سمعت
بعض أعضائه وهم يتحدّثون عن المفهوم المادي للتاريخ. لم يسبق لي أن سمعت العبارة
من قبل وقد أصابني الفضول لمعرفة معناه الحقيقي.
وعندما تقرّبت من هؤلاء الأعضاء، طلبت منهم شرحاً لهذا المفهوم. وسرعان ما
اكتشفت _كما بدا لي في ذلك الوقت_ أنّ هناك شيئاً ما مبهم فيه وأنّ الغموض
يتخلّله. لقد أخبروني بأنّهم يؤمنون به وكانوا متأكّدين من أنّه مفهوم علمي
أصيل، لكن كان ليس من السهل تفسيره لأنّه كان "عميقاً" للغاية. قالوا لي
بأنه كان عليّ أن أقرأ كثيراً جداً لفهمه واستيعابه. فيما بعد، واتتني الفرصة
لأطلب من بعض الأعضاء الدائمين والمخضرمين في ذلك الحزب أن يفسّروا لي معنى
المفهوم المادي للتاريخ، لكني لم أحرز أي تقدّم يذكر. وتوصّلت إلى نتيجة مفادها
أنّني كنت سطحياً جداً وعقلي ضحل بشكل معيب لأفهم هذه المسألة في ذلك الوقت.
في هذه الأثناء، كنت قد اطّلعت على مجموعة من الأوراق الشيوعية وأخذت في
قراءة الكتب والكرّاسات الشيوعية أيضاً. وسرعان ما لاحظت أنّ هناك الكثير من
التناقضات التي تتخلّل النظرية الشيوعية. المؤلّفون والمحرّرون كانوا يمتلكون
أفكاراً ووجهات نظر مختلفة، وغالباً ما كانت متضاربة، حول مجموعة في غاية الأهمية
من المسائل المبدئية. وقد فُسِّر هذا الأمر لي بأنه "اختلاف جائز في الآراء
ووجهات النظر من جانب الكتّاب". وقد تمّت طمأنتي بأنّ كل شيء على أحسن ما
يرام. وأنّ "ضمن أي حركة ديمقرطية كحركتنا، يجب السماح لحرية التعبير بين
الأفراد".
لم أكن راضياً بهذا الجواب. إذ شعرت أنه لا بدّ أنّ هناك شيء ما خاطئ في
حركة سمحت بكل هذه الآراء المختلفة على مبادئ الشيوعية. فالآراء المتعارضة
والمتضاربة بشكل مباشر قد لا تكون جميعها صحيحة بالضرورة. كنت ما أزال شخصاً
متديناً، إلا أني كنت شكوكياً بعض الشيء، وطرحت السؤال التالي بشكل طبيعي: ((ما
موقف الشيوعية من الدين؟))
تلقّيت على سؤالي هذا ثلاثة إجابات مختلفة. فقد أخبرني البعض أنّ الشيوعية
والدين في توافق وانسجام تام، وأنّ ((الشيوعية تمثّل المسيحية العملية)). آخرون
أخبروني أنّ ((الشيوعية فلسفة مادية ولذلك لا تترك أي مجال للإيمان بالغيب أو
الماوراء)). وكان هناك آخرون قالوا لي ((أننا لا نقف أي موقف من أي نوع من الدين،
فهو مسألة خاصة)). ولطالما حيّرتني هذه المواقف والآراء المتضاربة.
من بين الكتب التي كنت قد اشتريتها كانت أعمال كل من كارل ماركس وفريدريك
أنجلز. وكنت سابقاً قد قرأت بعض المخطوطات التي جرى ذكرها ورأيت العديد من
الاقتباسات من أعمالهما خلال الاجتماعات الشيوعية الدورية. ثمّ قلّبت انتباهي
لكتاباتهما وبعد فترة بدأت بفهم المقصود من فكرة المفهوم المادي للتاريخ. وكلما
قرأت كتاباتهما أكثر، اتضّحت الفكرة بشكل أكبر. وبدأت بالتغلّب على موقفي السابق
غير المحدّد في السؤال عن الدين، وعلى الأسئلة الأخرى، كالإصلاحات الاجتماعية،
وظيفة المنظّمات الفردية (أي الاتحادات)، الدولة، والمؤسسات الأخرى. وتوصّلت إلى
نتيجة مفادها أنّه إذا كان كل من كارل ماركس وفريدريك إنجلز محقين، فأغلب الذين يطلقون
على أنفسهم لقب شيوعيين، يجب أن يكونوا مخطئين.
في ذلك الوقت كنت متحمّساً جداً بشأن التأثير المنير لمفهوم المادية
التاريخية. إذ أنّه كان قد سلّط الضوء على مدى ضآلة المعرفة التاريخية التي كنت
أمتلكها سابقاً. كنت قد تعلّمت إلقاء المحاضرات للتو. وكنت قد خضت بعض النقاشات
حول مبادئ الاقتصاد والتاريخ الصناعي. وقد حدث لي بأني أدركت أنني إذا تمكّنت من
تفسير معنى المادية التاريخية للعمال والطبقات العاملة، فإنني بذلك أستفيد من وقتي
أيّما استفادة. لقد حاولت تجربة المادة الموجودة تحت تصرّفي وأصبحت كثيراً ما
ألتقي بسؤال لطالما أزعجني وأقلقني. كان السؤال على الشكل التالي: ((من الجيد
استخدام مفهوم المادية التاريخية لتفسير
الأشياء والأمور المادية وعلاقاتها، لكن كيف لنا أن نفسّر من خلالها الأمور
الروحية، هل يمكن لمفهوم المادية التاريخية أن يقوم بذلك؟))
كان هذا هو التحدّي الذي أجبرني على التوصّل إلى استنتاج مفاده أنّه إذا لم
يكن من الممكن تفسير الأمور الروحية من وجهة نظر المادية التاريخية، عندئذٍ لابد
أنّ هناك خطأ معيّن يتخلّل مفهوم المادية التاريخية. كنت مؤمناً أنّ ذلك ممكن،
وشرعت في العمل فوراً. البيانات الواردة خلال الفصول التالية قد تمّ جمعها من
مصادر مختلفة. ولا أنسب أيّة أفكار لي. كل ما قمت به هو أني جمعت أفكار الآخرين مع
بعضها بهدف اكتشاف المكان الذي جاء منه ما يسمى بالأمور الروحية، وأيضاً بهدف
إجراء مقارنات مع التفسيرات الأخرى للتاريخ، لإثبات صحّة ومعقولية المنهج الماركسي.
جون كيراتشر
شيكاغو، 1929
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق