4) المفهوم المثالي للتاريخ
هذه النظرة إلى التاريخ، والتي تقدّمت اليوم بفضل المجتمع الرسمي، تقوم على
نظرية الإرادة الحرة. فحسب هذه النظرة، الإنسان هو مخلوق حرّ. فهو يمتلك القوّة
والإرادة للاختيار فيما يتعلّق بأفعاله وتصرّفاته، القدرة على الاختيار بين
"الخير والشر". قد يمدّ له الله يد المساعدة، أو قد يغويه الشيطان، لكنّ
الخيار النهائي يكون يبده وحده ولا أحد غيره. هذه الإرادة الحرة، هذه القدرة على
الاختيار بين "الخير والشر"، ضرورية جداً لصنع إنسان "خطّاء".
فإذا لم يكن بمقدور الإنسان الاختيار ف يمكن أن يكون "خطّاءً". عندها
ستصل عملية إنقاذ الأرواح إلى نهاية مسدودة. اليوم تدافع الكنية عن نظرية الإرادة
الحرّة باستماتة. لكن ما هي الإرادة؟ إنّها العقل الذي تتشكّل داخله الأفكار.
المفهوم المثالي للتاريخ قائم على أساس فكرة بشرية.
من وجهة نظر المدافعين عن هذا المفهوم، تعتبر هذه الفكرة غاية في الأهمية.
فالأشخاص الأخيار والصالحين هم الذين يحملون أفكاراً خيّرة وصالحة، أمّا الأشخاص
الأشرار والسيئين فهم أولئك الذين يحملون أفكاراً سيئة وشريرة. الأفكار، سواءٌ
أكانت خيّرة أم شريرة، تأتي أولاً ثمّ تتبعها الأفعال. الأشخاص الأذكياء هم نتاج
الأفكار الذكية. والأشخاص الأغبياء هم نتيجة أفكارهم الغبية الخاصة. الأمم
المتقدّمة تقوم على أفكار تقدّمية، أمّا الأمم المتخلّفة فإنّها تقوم على أفكار
رجعية متخلّفة. الأشخاص التقدميون والناجحون هم كذلك بفضل أفكارهم التقدمية أمّا
الأشخاص المتخلّفون فهم نتيجة أفكارهم البالية والقديمة. وهذا هو جوهر المفهوم
المثالي للتاريخ.
إذا تتبنّينا هذا المفهوم المثالي للتاريخ وطبّقناه على المجتمع بشكل عام
نجد أنّ الأمم العظيمة هي نتاج أمم معيّنة لديها رجال عظماء، والذين هم بدورهم
نتيجة أفكارهم العظيمة. فالتاريخ _من وجهة النظر هذه_ يعني ببساطة أنّ الرجال
العظماء هم صنّاع التاريخ. ويطلق على هذه الحالة في بعض الأحيان اسم "نظرية
الرجل العظيم التاريخية". طبعاً تقع ضمن نطاق المفهوم المثالي. وكامل المفهوم
يقوم على أساس الفكرة القائلة بأنّ الفكرة تأتي أولاً ثمّ تتبعها الأفعال بعد ذلك.
قد يكون هذا المفهوم صحيحاً إلى حدٍ ما. فلا يمكن إنكار حقيقة أنّ الأفكار تسبق
الأفعال. على سبيل المثال، لا يمكننا أن نحصل على منزل حتى نمتلك في عقولنا فكرة عنه.
يمكننا تخمين أو تصوّر الشكل الذي سيبدو عليه قبل البدء ببناءه. يمكن للمهندس
المعماري أن يرسم مخطّطاً، إذ بإمكانه تصوّير المنزل قبل بناءه. فبإمكانه أن يريك
كيف سيبدو بعد الانتهاء منه. ليس فقط أول طاولة من نوعها تمّ تصوّرها بكل كل طاولة
يتمّ إنتاجها. ففكرة الطاولة ربما قد تولّدت أساساً من عملية وضع الطعام على صخرة
مسطّحة أثناء تناوله.
إنّ تطبيق هذا المفهوم على جميع الأشياء والأمور، نحن ملزمون للاعتراف بأنّ
الفكرة جاءت قبل صنع الطاولة. فإذا استعرضنا التاريخ من خلال وجهة النظر هذه عندها
نكون مجبرين على الاستنتاج بأنّ كشفها يعني كشف الأفكار الإنسانية وسبرها. ليس
هناك أي خطأ يتخلّل هذه النظرة حتى هذا الحد، لكنها لا تمضي إلى أبعد من ذلك، حيث
أنّنا نواجَه من قبل سؤال غاية في الأهمية: ((إذا كانت كافة إنجازاتنا هي نتاج
أفكارنا، إذا كان التاريخ ما هو إلا النتيجة الحتمية للأفكار الإنسانية، فمن
أين جاءت هذه الأفكار أصلاً؟))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق