الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

20) التنظيم والتحرّر

20) التنظيم والتحرّر

منذ حوالي جيل مضى، كان بإمكان عدد معيّن من العمّال ترك عملهم والبدء بعمل خاص بهم. لكنّ تلك الأيام قد ولّت مرةً وإلى الأبد وقد استفاق العمّال لهذه الحقيقية. لقد تضخّمت الصناعات اليوم وباتت تحتاج لرأس مال ضخم لتشغيلها. فقد ولّت أيام ورشات العمل الصغيرة، والمحال الصناعية والحرفية. فحقل العمل الصغير، والتجارة المفردة، والحرف الصغيرة، جميعها قد ابتلعها المخزن الكبير وتقدّم نظام المخزن الضخم وفروعه المتعدّدة.
من هذه البيئة المادية انبثق الفكر بالنسبة للفئة المتقدّمة من الطبقة العاملة، فليس هناك مهرب من عبودية الأجر بالنسبة لهم ولأحفادهم من بعدهم. لقد بدأوا يدركون أنّه لا يوجد حل نهائي لمشاكلهم، وأنّهم عاجزون كأفراد بمفردهم، وليس أمامهم سوى عبودية الأجر كسبيل للحياة، وأنّهم يعملون ليل نهار لتتراكم الملايين عند طبقات غير نافعة، طبقات ليس لها أي دور اجتماعي سوى أن تجمع الفوائد والأرباح، وتحصد أتعاب العمّال.
وعندما يدرك العامل أنّ مشكلته لا يمكن حلّها بالعمل الفردي وحده، فإنّه يتوجّه للعمل الجماعي، أو التنظيم. إنّه يرى أنّ عجلات التقدّم الاجتماعي لا يمكن إدارتها إلى الوراء، وأنّ الصناعات الكبرى لا يمكن تقسيمها إلى صناعات أصغر، ورشات عمل صغيرة. فالتملّك الجماعي لوسائل الإنتاج هو الحل الوحيد لمشكلته: فالمطاحن، المناجم، والمعامل يجب أن تسيطر عليها الجماعة، المجتمع.
الإنتاج الجماعي، أو إخراج كميات هائلة من البضائع والسلع المعيارية على يد جيوش عظيمة من العمّال المنتجين، هو الأساس المادي والاقتصادي للفكر الشيوعي.
التملّك الجماعي من قبل المجتمع ككل هو السبيل الوحيد والممكن للتخلّص من نير العبودية الحالية. لقد أغلق المخرج الواسع للهروب الفردي. ولا يوجد سبيل للتخلّص من نير العبودية واحتكار الطبقة الطفيلية سوى العمل الجماعي للطبقة العاملة، عندها _وعندها فقط_ ستتخلّص طبقة العمّال من الفقر والجوع مرة وإلى الأبد.
كل عامل ذكي يعرف تمام المعرفة أنّه إذا كان هناك فقر فإنّه ليس ناتجٌ عن النقص والندرة، بل على العكس، من فائض الإنتاج. ليس هناك أي خلل في عملية الإنتاج، بل تسير على أحسن ما يرام. بل الخلل يتمثّل في اختلاس الإنتاج وسرقته. ولا يمكن سوى للعمّال ذوي الفهم الصحيح والواضح لعالمهم الاقتصادي والمادي الذي يعيشون فيه أن يحلّوا هذه المشكلة القديمة قدم الزمن نفسه. وقد باتت أدوات الإنتاج ووسائله الآن في متناول أيدي العمّال. وأوّل خطوة تتمثّل في السيطرة على السلطة السياسية وتأسيس حكومة بروليتارية. أمّا الخطوة الثانية فتتمثّل في تأميم كافة الصناعات.
هناك الكثير من العقبات التي تواجه الطبقة العاملة أثناء كفاحها للوصول إلى هدفها، ليس أقلّها حالتهم العقلية. يقول كارل ماركس ((إنّ عبء تراث جميع الأجيال السابقة مثل جبال الألب على عقول الأجيال الحية)). وهذا هو عين الحقيقة للأسف بالنسبة للطبقة العاملة. فما زال العمّال مثقلون بالكثير من التقاليد والتراث. مازالوا يحملون الكثير من المعتقدات الدينية التي تنتمي إلى الماضي، معتقدات وأفكار خرجت من قلب الظروف والأحوال الاقتصادية والمادية التي عفا عليها الزمن. وهذا مردّه طبعاً إلى التلقين الذي تلقّوه على يد طبقة الأسياد، التي يسمّى التعليم.
لكنّ البيئة المادية والظروف الاقتصادية المتغيّرة، التي أخرجت أشكال دينية جديدة للطبقات السابقة، لن تأتي بأي نموذج ديني جديد للطبقة الحالية.
فالوعد بسعادة أبدية بعد الموت كتعويض عن الفقر والمعاناة في الوقت الحالي يقابلها البروليتاريون الجدد بحركة سياسية جديدة، وليس بدين جديد، حركة سياسية بوسع العالم بمنظورها، وبهدف حالي، الآن وهنا، وليس في حياة أخرى هناك.
هذه الحركة اللادينية، بأسسها الاقتصادية والمادية، وأهدافها الاقتصادية والسياسية، هي الأمل الوحيد والأخير لعمّال العالم. وشعارها الأساسي والأول هو: ((يا عمّال العالم اتّحدوا... فلن تخسروا شيئاً سوى أغلالكم، وستفوزون بالعالم كلّه))


انتهى

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

19) البروليتارية الثورية

19) البروليتارية الثورية


عندما وقف المزارع في الماضي وجهاً لوجه مع ظروفه ومشاكله الاجتماعية، عندما شعر بثقل سياطه أسياده ولسعات الجوع ببطنه، كان يواسي نفسه بالاعتقاد أنّ أوقاته السعيدة بانتظاره في مكان ما وفي زمانٍ ما بعد موته. لكنّ العامل الحالي، الذي لا يؤمن بالحياة بعد الموت ولا بالسعادة ما وراء القبر، يوجّه انتباهه لإيجاد حلول لمشاكله هنا على الأرض. إنّه يرى حوله طبقة طفيلية عاطلة، تتمثّل في بعض الأحيان في الجيل الثالث أو الرابع من العائلات الرأسمالية الثرية، أي الذين لم يشاركوا بأيّ عملية إنتاج من أي نوع. كما أنّه يرى الطبقة المعدومة التي لاتملك شيئاً، الطبقة التي ينتمي إليها هو نفسه، تقوم بكل الأعمال المفيدة والمثمرة والمنتجة. إنّه يدرك أكثر فأكثر أنّ البروليتاريون، طبقة العمّال المأجورين، هي التي تدير عجلة الإنتاج، وأنّها هي التي تحمل على كاهلها العملية الإنتاجية من الأعلى إلى الأسفل.

الخميس، 24 أكتوبر 2013

18) الطبقة العاملة الملحدة

18) الطبقة العاملة الملحدة

في حين أنّ الطبقة الرأسمالية بذاتها عاجزة عن التخلّص من قيود الجهل والخرافة، إلا أنّ طبقة العمّال قادرة. طبعاً، هنالك العديد من الرأسماليين المتحرّرين من الخرافة، إلا أنّ السواد الأعظم منهم لا يستطيعون التحرّر منها بسبب نمط حياتهم. أمّا الأفراد الأكثر تقدّماً وثقافةً من تلك الطبقة غالباً ما يحرّرون أنفسهم من الطقوسية ويتبنّون موقفاً أكثر "سعةً وتسامحاً" فيما يتعلّق بالمسائل الدينية، لكن عندما يسألون ما إذا كانوا يؤمنون بإله غالباً ما يكون جوابهم بنعم. وعندما تطلب من تحديد مواصفات أو سمات إلههم، فإنّهم سيعطونك أكثر الأجوبة غموضاً وضبابيةً. وغالباً ما تتحوّل الأجوبة إلى تصريحات غريبة على نحو: ((هناك شيء ما، في مكان ما، موجود بشكل ما، هو علّة الوجود))... وهذا الكلام هو الخطوة الأخيرة خلال الانحدار إلى مستنقع الخرافة. أغلب الناس لا يقدرون على تخليص أنفسهم من هذا "الإله" الضبابي. ملايين العمّال بلغوا تلك المرحلة. وباستطاعتهم المضيّ لأبعد من ذلك، لأنّهم يفتقرون للفهم العميق للأصل المادي للدين وعملية تطوّره الاجتماعي.
والقسم الأكثر تقدّما ضمن طبقة العمّال، هؤلاء الذين يتقدّمون على زملائهم، الذين نفضوا عن أنفسهم غبار الجهل وخلعوا عباءة الخرافة نهائياً. وأفضل سبيل للوصول إلى هذه الغاية يمرّ عبر المعرفة العلمية _الرأسماليون بإمكانهم سلوك تلك الدرب أيضاً_ وهو موجود ضمن نمط حياة طبقة العمال. نحن دائماً نقابل عمالاً بعيدين كل البعد عن الثقافة أو المعرفة، لكن فيما يخصّ الدين، فإنّهم لديهم قناعة بأنّه مجرّد ((ترّهات)).
وإذا سألتهم كيف توصّلوا إلى استنتاجاتهم اللادينية، تراهم لايستطيعون ذلك، لكنّهم متأكّدون أنّ الدين مجرّد تفاهة. إنّهم يمقتون أولئك الذين يعظون ويتظاهرون بممارسة المسيحية والالتزام بتعاليمها. قد يقبلون "الحسنة" عندما يكونون جائعين، لكنهم يحتقرون الشيء نفسه بالإضافة إلى تجّار الحسنات الذين يتطفّلون ويتدخّلون بشؤونهم المتواضعة.
قد يقوم الرأسمالي بفعل الصلاة، ويقول: ((أعطِنا خبزنا كفاف يومنا))، لكن كما قال بول لافارغ بذكاء: ((ولا تعطِنا عملاً)). إلا أنّ العامل الحديث لا يؤمن بالصلاة من أجل الخبز. إنّه يعلم حق العلم أنّه إذا لم يعمل فإنّه لن يأكل، بل سيتضوّر جوعاً، أو يلجأ للتسوّل أو السرقة. إنه لا يؤمن بضربات الحظ. لا ينتظر أقارب أثرياء له ليموتوا ويتركوا له ثروة طائلة. ارتفاع سوق الأسهم أو انخفاضه لا يعني له شيئاً. كما أنّه لا ينتظر استجابة آلهة غامضة لصلواته. لقد علّمته تجربته في الحياة أنّه لكي يأكل هو وعائلته، فعليه العمل من أجله وأجلهم واستحقاق خبزهم اليومي عن طريق جهوده العقلية والجسدية. إذن نلاحظ أنّ أسلوب العامل في الحصول على خبزه اليومي مختلف تماماً عن أسلوب الرأسمالي. قد يكون الأخير يحصد ملايين الدولارات وهو يلعب الغولف أو يبحر في البحر على متن يخته... (فإلهه صالح بالنسبة له). أمّا العامل على احتكاك متواصل مع العجلات الشحمية للآلة في موقع مختلف تماماً. إذ عليه التخلّي عن ساعات طويلة من طاقة حياته القصيرة كل يوم في سبيل الحصول على بضعة دولارات بائسة، لكنها ضرورية من أجل استمرار حياته وحياة عائلته.
العمّال الحاليون مختلفون عن عبيد الأرض في الماضي. الفلاح أو العبد الذي كان يعمل في الحقول، على احتكاك بالطبيعة، لكنّه جاهل تماماً بعوامل الطبيعة وطريقة سيرها، كان من المحتّم أن يكون مؤمناً بالخرافات. كان أمياً. وكان يؤمن بأشياء وأمور سيضحك منها العامل الحالي.  فإذا نفقت بقرته أو حصانه، كان يقول: ((هذه إرادة الله ومشيئته)). وكان سيظنّ أنّ ذلك عقاب من الله على ذنوبه ومعاصيه. وكان يهرع إلى الصليب أو الماء المقدّس.
والعامل داخل المصنع الحديث لديه خبرة مماثلة. فعندما تتوقف آلته عن العمل. لكنّ العامل لا ينسب ذلك لأسباب ماورائية غير طبيعية. إنّه لا يؤمن بأنّ الله له علاقة بذلك. كما أنّه لا يهرع إلى الصليب أو الماء المقدّس، بل نحو علبة الزيت ومفتاح الربط. إنه مادي بالممارسة. فهو ينطلق عادةً من السبب إلى النتيجة. وعندما يدخل المصنع، فإنه يخلع عنه جميع مخاوفه والأمور التي تقلقه ويتركها عند الباب. فإذا لم يتصرّف كمادي، فإنّه سيخسر إصبعه أو يده، أو ربّما حياته. إنّه يراقب باستمرار الأسباب الطبيعية ويفكّر فيها مطوّلاً، إنّه في الواقع ليس لديه وقتاً لأي شيء آخر.
وعندما يخرج العامل من المصنع، فإنّه يظلّ في بيئة ميكانيكية آلية تتفاوت درجتها حسب البيئة. فهو يرى السيارات والدراجات تسير في كل مكان من حوله. قد يصل إلى منزله بالقطار السريع. إنّه يستخدم الهاتف، ويستمع إلى الراديو، إلى الصوت الخارج منهما من على بعد مئات وآلاف الأميال، محمولاً إليه عبر الأثير. يمكنه إطفاء الأشياء وإعادة تشغيلها بكبسة زر. كل ما يفعله أو يتعامل معه يوازي، أو حتى يتجاوز "المعجزات" التي وصفها الكتاب المقدس. إنّه يعلم ما يمكن فعله وما لايمكن فعله. إنّه يشكّ بل لا يؤمن على الإطلاق بقيامة الموتى. فهذا لا يحدث في هذه الأيام. بل إنّه يضعها بجانب قصص الجنّيات، العفاريت، جاك قاتل العمالقة، وسانتا كلوز.
في حين أنّ البيئة التي يعيش ضمنها العامل تزيل الخرافات من رأسه وتساعده على البحث عن سعادته في هذا العالم، وليس في أي عالم ما بعد القبر، إلا أنّها لا تزيل من عقله _وبشكل كلّي_ فكرة أنّ النظام الاجتماعي الحالي بأحسن ما يرام. بل إنّه عبارة عن تجربة أخرى من النوع المادي سيكون لها دور كبير في تنويره اجتماعياً. إنّها تجربته الاقتصادية.

يثبت العامل المفكّر اليوم أنّه ينتج هو وأقرانه ثروة أكثر من الجيل الماضي من العمّال. فالوحوش الميكانيكية العظيمة التي صنعها هو وأصحابه تطحن المواد الخام وتحوّلها إلى منتوجات صناعية بسرعة قياسية. ومع ذلك، وبعضّ النظر عن الأشياء الكثيرة والجميلة التي ينتجها بكميات هائلة، إلا أنّه يجد نفسه غالباً محروماً من أساسيات الحياة. إذ يتمّ طرده من عمله من حينٍ لآخر. وكثيراً ما يجد نفسه عاطلاً عن العمل، وفي كل مرة يفقد فيها احد أصدقاءه ورفاقه في العمل. إنّه يرى الملايين عاطلون عن العمل ولعدّة أشهر. إنه يعرف أنّ في العديد من بلدان العالم هناك ملايين العاطلين عن العمل وبشكل دائم، يتوقون للعمل لكنّهم لا يجدون فرصة. إنّه يلاحظ أيضاً أنّ الرأسماليين، ملاّك الصناعات، لا يملكون الخبرة والتجربة ذاتها، بل إنّها مختلفة عن تجربتهم وخبرتهم. بل إنّ الثروة تغمرهم هم وعائلاتهم. إنّه يراهم وهم ينفقون ثرواتهم على الرفاهية والأبهة أكثر ممّا يكسب هو في عام واحد. ومن هذه البيئة المادية التي يعيش فيها، من هذه التجربة الاقتصادية، يتعلّم العمّال أنّ النظام الاجتماعي الحالي، بقدر ما يتعلّق الأمر بهم، هو نتاج الترس والعجلة.

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

17) العمال الذين ظلّوا متديّنين

17) العمال الذين ظلّوا متديّنين

بعض العمال بقوا على درجة عالية من التديّن. إنّهم يعتقدون أنّ الحلّ النهائي لمشاكل العالم يكمن في اهتداء الجماهير إلى المسيحية. ومن غير المناسب السخرية من أولئك العمال واحتقارهم. فاللوم لا يقع عليهم كونهم متديّنون. هم مخلصون جداً في معظم الأحيان. وموقفنا تجاههم يجب أن يكون من قبيل الشفقة والتعاطف، ويجب بذل الجهود لإنقاذهم من نير معتقداتهم البدائية.
وأفضل طريقة لإنقاذ العمّال وإبعادهم عن الخرافات هي في منحهم المعرفة، معرفة حقيقية. فعندما تدخل المعرفة إلى العقل، تخرج المعتقدات الخرافية هاربة. والعلم هو أفضل دواء ضدّ الخرافة والجهل. فهو قائم على الحقائق والوقائع، وليس على الإيمان والتسليم. إنّه على النقيض من الدين الذي لا يحتاج لأيّة حقائق، بل يكفيه الإيمان الأعمى والتسليم. على الإنسان العلمي أن يكون مثقفاً ويعرف الكثير من الأمور. أمّا الإنسان المتديّن فليس من الضروري أن يمتلك أي معرفة أو ثقافة مهما كانت. ومع ذلك من غير الصحيح شنّ هجوم على العمّال لأنّهم وقعوا ضحايا بين براثن الدين.
في زمنٍ مضى كان يتمّ ضرب الأشخاص المجانين بالسوط. وكان يعتقد أنّ هذا العلاج فعّال. وهؤلاء المشرفون على هذا النمط من العلاج كانوا أناساً خرافيين، وكانوا يعتقدون أنّ الجنون كان نتيجة غزو أرواح شريرة للجسد البشري. وكانوا يلجأون للضرب بالسياط لإخراج هذه الشياطين والأرواح الشريرة وعلاج المريض. نحن الآن لا نعالج المرضى العقليين بهذا الأسلوب. نحن نعلم الآن أنّ المرض العقلي أو الجنون ما هو إلا حالة من حالات العقل ومن الممكن علاجها بوسائل عديدة وعن طريق أدوية مناسبة، لكن بالتأكيد ليس بالضرب بالسوط.
الدين أيضاً هو حالة من حالات العقل، لكنه في معظم الأحيان ليس حالة مرضية، باستثناء حالات معينة. فإذا كان العمال متديّنون فذلك يعود إلى تربيتهم ونشأتهم، إنهم ببساطة لا يعرفون شيئاً آخر غير ذلك. ما هم بحاجة إليه هو وجود معرفة حقيقية عن العالم من حولهم.

العمّال المتدينون غير منتظمين كجهاز للحكم. ونادرا ما ينشطون ضمن حركة العمل. وهذا لا يعود إلى كرههم لزملائهم في العمل، بل لأنهم يعتقدون/يؤمنون أنّ الـ"فيما بعد" أفضل من الـ "هنا الآن". لقد جرى تعليم أولئك العمّال [برمجتهم] بأن يكونوا شاكرين وممتنّين بغضّ النظر عن ظروفهم وأحوالهم المادية. بهذا الشكل، سيغدو الدين أفضل وسيلة في يد الاستغلاليين ومستغلّي العمل. وهذا من أحد الأسباب الرئيسية في كون الرأسماليين ليبراليون جداً في التعامل مع أموالهم من أجل عمل الكنيسة. فلم تسمع عنهم أنهم يمنحون أموالهم أمكنة للعمل. أمّا الدين، في حين أنّه يساعد الطبقة الموظّفة، فإنه يدمّر طبقة العمّال. لهذا السبب بالضبط نسعى لإخراجه من عقول العمال، لأنّه يقف حجر عثرة في طريق تحرّرهم واستقلالهم الاقتصادي.

16) الإصلاح

16) الإصلاح

كانت البروتستانتية السّمة التي انطلت في النهاية على المذاهب التي جرى إدخال الإصلاح عليها في المسيحية. كان البروتستانت معارضين ضدّ الاحتكار الروماني، وزعم الرومان أنّهم الوحيدون القادرين على تفسير الكتاب المقدّس. لم يكن في نيّتهم إقصاء الكنيسة الكاثوليكية، بل كانوا يريدون إصلاحها بما يتوافق مع مصلحتهم. لكنّ الكنيسة كان من المتعذّر إصلاحها، إذ أنّها كانت مصرّة على أنّ الطبقة الحاكمة القديمة، طبقة الأرستقراطيين، بالإضافة إلى الكنيسة نفسها، هم الوحيدون الذين يمتلكون امتيازات. لذلك، ظهرت كنيسة مسيحية جديدة ونمت وازدهرت بالقرب من الكنيسة القديمة.
ما هو التفسير التاريخي للبروتستانتية؟... كان البروتستانتية نتاجاً طبيعياً لصراع طبقي جديد أخذ بالتطور في أوروبا. طبقة التجّار الجديدة، البائعين، والصُنّاع، كانوا في أغلبهم من سكّان المدينة. تطوّرت البلدات وازداد عددها، في حين أنّها في أيام الإقطاع كانت معدودة، ولا يتجاوز عددها عدّة مدن. نال المواطنون، بعد صراع طويل، معياراً للحرية، لكنّ كانوا يريدون أكثر من ذلك. خارج البلدات، في الأمم بشكل عام، اشتدّت قبضة الملوك والأرستقراطيين. فرضوا ضرائب ثقيلة على المواطنين، الذين لم يعودوا عبيداً وخدماً لهم بل أصبحوا مواطنين، وحكموهم بقبضة حديدية. كان مواطنو البلدات منجين صناعيين من الطراز الأول. وكانت الثروة تتضخّم وتزيد بفضل جهودهم وإنتاجهم. لم يكن الأرستقراطيون منتجين، وكانوا يمقتون العمل، إلا أنهم كانوا المستفيدين الأوائل من عملية إنتاج هذه الطبقة الجديدة. لقد حصدوا ثمار العملية الإنتاجية لهذه الطبقة الكادحة عن طريق فرض الضرائب والأتاوى وكل طريقة ممكنة كانوا يتعاملون فيها مع خدمهم وعبيدهم.
اشتكت هذه الطبقة الجديدة _الرأسماليين الأوائل، مليونيرية الزمن الحالي_ إلى الكنيسة. إلا أنّ تلك المؤسسة _التي تمتدّ جذورها الاقتصادية في ملكية الأراضي_ التي تعتبر من أكبر المؤسسات الأرستقراطية في تلك الفترة، كانت تمتلك حوالي ثلث أراضي أوروبا، فانحازت إلى جانب الملوك والأرستقراطيين ضدّ طبقة الرأسمالية الصاعدة. قالوا لهم بأنّ الملوك يستحيل أن يخطئوا أو يذنبوا، وأنّهم كانوا جزءاً من الخطّة الإلهية لتعيينهم ملوكاً على الناس، وأنّ الأرستقراطيون يتمتّعون بحقوق لحكمهم يستمدّونها من الله العليّ مباشرةً.
هكذا كان جواب الكنيسة، وكان نهائياً. ولم تكن تسمح بأيّة نقاش أو جدال. ليس بوسع الرأسماليين سوى تحمّل معاناتهم وما كتبه الله لهم. لقد كان التنظيم الاجتماعي في ذلك العصر إلهياً. كل شيء كان حسب إرادة الله ومشيئته. إلا أنّ المواطنين، بعد أن تعلّموا القراءة والكتابة، قد بدأوا في البحث عن "أصل جميع الحكم" بأنفسهم. فوجدوا الكثير في الكتاب المقدّس، وبشكل خاص العهد القديم، لتبرير نظرتهم الاجتماعية. بدأوا بالتبشير ضدّ الحكم الملكي المطلق، وضدّ فكرة عصمة الملك. وقد أدّى بهم ذلك إلى التشكيك بعصمة البابا نفسه. أمّا جواب الكنيسة على ذلك فكان القمع والاضطهاد، محاكم التفتيش والموت لجميع من الكهنة والقساوسة الذين انتهكوا عهودها. كان للبروتستانتية تاريخاً طويلاً من التضحية والشهداء. لكن في النهاية حان عهد النصر بالنسبة لها.
كان الإصلاح اللوثري في ألمانيا يمثّل انتصار الطبقة الجديدة. لقد تمثّل في تكيّف المسيحية مع الظروف والحاجات الاقتصادية للطبقة البرجوازية. كانت البروتستانتية في بداية عهدها مجرّد كاثوليكية معدّلة. إلا أنّ الفلاحين، ذوي الاحتياجات الاقتصادية المختلفة وفي بيئة مختلفة تماماً، قد طوّروا خلال عهد الإصلاح مذهب بروتستانتي أكثر تشدّداً. فلم يكتفوا بالاعتراض ضدّ الكنيسة ومُلاّك الأراضي فقط، بل ثاروا ضدّ احتكار أي نوع من الملكيات. لقد نادوا بمشاركتها والتشارك بها. تمّ سحق المذهب القائل بتجديد العماد Anabaptism وأنصار كنيسته بقيادة توماس منزر وغيره في زمن لوثر، من قبل الرأسماليين ومُلاّك الأراضي، هاتان الطبقتان صارعتا لمحاربة الخطر المشترك الذي يهدّد بحرمانهما من امتيازاتهما. إلا أنّ عملية التطوّر الاجتماعية مستمرة على قدمٍ وساق. فقد تطوّر المذهب اللوثري مع تطوّر النظام الرأسمالي حتى أصبح يعبّر عن الحاجات الاجتماعية للرأسمالية في مراحلها المتقدّمة.
في بريطانيا، كان الإصلاح عبارة عن كفاح استنزاف طويل الأمد. وأكثر المراحل شهرةً خلاله كانت الحرب الأهلية الإنكليزية. فقد تمكّن أوليفر كرومويل وأشقّاءه البروتستانتيين من القضاء على السلطة المطلقة للملك تشارلز الأول والإطاحة بالأرستقراطيين الأسقفيين والكاثوليك القساة. لقد قطع رأس الملك على المقصلة بالإضافة إلى سقوط الكثير من الأرستقراطيين في أرض المعركة. كان الإصلاح _مع أنّه كان يرتدي عباءة دينية_ يمثّل صراعاً طبقياً شرساً. وقد تمّ خوضه من أجل مصالح مادية. وعند انتصاره، انطلقت يد الرأسمالية، وكان على الأرستقراطيين احتلال مكانة ثانوية، أو يتمّ القضاء عليهم نهائياً كطبقة. وهكذا كان مصيرهم بالضبط خلال الثورة  الفرنسية.

البروتستانتية هي الشكل الذي تأخذه المسيحية لنفسها تحت ظلّ الرأسمالية. فهي تفيد في إضفاء صبغة قداسة على السرقات التي يقوم بها العبيد المأجورين. عبودية المتاع أمر محتقر وبعيد عن المسيحية، والقنانة على نفس النمط، أمّا عبودية الأجر فلا بأس بها. إنّ البروتستانتية، وبشكل عام الديانة المسيحية، تتناسب بشكل جيد مع النظام الاجتماعي الحالي. فهي تعدُ العامل بالسعادة بعد الموت. وهذا ما يجعله قانعاً بنصيبه الحالي في الحياة. المذهب البروتستانتي أكثر تعقيداً، وأقلّ دوغمائيةً، ويناسب أكثر كأمل جديد للعمّال في زمننا الحالي. طبعاً لقد مرّ المذهب عبر عملية تطورية طويلة الأمد، ولابدّ أنّ معظم مفاهيمه وأوجهه "الدوغمائية" الحالية قد اعتُبِرت من قبل المستعمرين المسيحيين، "آبائنا الحجّاج"، على أنّها من عمل الشيطان.

15) الإقطاعية


15) الإقطاعية

عندما اجتاحت قطعان البرابرة جميع أقاليم الإمبراطورية كانوا يعبدون آلهة قبلية من عدّة أنواع مختلفة، كانت تمثّل عادةً حياتهم الرعوية، أو عناصر الطبيعة التي جعلهم أسلوب حياتهم قريبين منها وعلى احتكاك دائم بها. وسبق لنا أن فسّرنا هذا الانعكاس العقلي كما جرى التعبير عنه في الميثولوجيا الألمانية والاسكندنافية.
عندما كان هناك نظام اجتماعي جديد قد بدأ بالظهور من القبائل الاشتراكية الحرة في أوروبا، نظام يقوم على ملكية الأراضي واستعباد الذين لا يملكون الأرض، أحرز المسيحيون خطوة نحو الأمام. فالشعوب البربرية في أوروبا الشرقية والشمالية قد اعتنقت الديانة المسيحية، وقد فرضت عليهم على الأرجح بحدّ السيف على أيدي حكّامهم. طبعاً، كأي دين من الأديان الأخرى، مرّت المسيحية بمنعطفات تغييرية لتتناسب مع البيئة المحيطة والمتغيّرة.
هذا النظام الاجتماعي الجديد، القائم على ملكية الأرض، والمقسّم بحدّة لعدّة طبقات متمايزة، كان النظام الإقطاعي Feudalism. وقد انتشر في جميع أرجاء أوروبا مع مرور الزمن. لقد استعبد رجال القبيلة الأحرار سابقاً وجعلهم مجرّد عباد. وأصبح زعماء القبائل وأقاربهم المباشرين هم الأرستقراطية الجديدة. وعلى رأس كل دولة إقطاعية كان هناك ملك. أمّا الله فكان ملكاً سماوياً. بعد الملك يأتي اللوردات الذين احتكروا الأراضي وقسّموها بين أنفسهم إلى إقطاعيات حكموها بالقوة والسوط. الراعي الصالح، يسوع اللطيف، الأخ الصغير للفقراء، لم يعد موجوداً، بل رُفِع إلى مرتبة أرستقراطي. لقد أصبح "سيّدنا Our Lord". لم يكن عبداً أو فلاّحاً يقتدى به وبأفعاله وتعاليمه، بل أصبح سيداً.
أوّلت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الديانة المسيحية من أجل أوروبا بكاملها. لم يكن بوسع الأرستقراطيين لا القراءة ولا الكتابة. لم يكن هناك أي "تعليم" خارج الكنيسة. ولكن... مع ظهور وتطوّر طبقة جديدة ضمن النظام الإقطاعي _طبقة التجّار_ بدأت المعرفة بإحراز خطوات تقدّمية صغيرة خارج الدوائر الإكليروسية. وظهر عصر النهضة من الحاجة إلى وجود طبقة التجار.

صارعت الكنيسة وبقسوة ضدّ تقدّم المعرفة. وكانت المحاكمات، والحرق على الوتد، ومحاكم التفتيش أساليب لجأت إليها الكنيسة لمقاومة الترياق الشافي من فكرة احتكارهم "للحقيقة".

14) أورشليم الجديدة

14) أورشليم الجديدة

إنّ البيئة التي عاش فيها الشعب اليهودي هي مصدر فكرتهم عن الحياة بعد الموت التي ستكون شبيهة تماماً بحياتهم على الأرض. فجنّتهم عبارة عن مدينة كبيرة، أورشليم السماوية. كانوا يؤمنون بأنّهم سيصعدون إلى السماء حيث البوّابة اللؤلؤية عبر سلّم ذهبي، ويسيرون على شوارع وطرقات من الذهب الخالص. في البداية سيمثلون أمام مجلس سماوي للمحاكمة، تماماً كما كانت حالهم على الأرض. فهم لم يأتوا بأفكارهم عن السماء والجنّة من خارج بيئتهم المادية. لقد قاموا ببساطة بأخذ نموذج أورشليم كما هي على الأرض وإسقاطها على السماء. لقد تحوّل الله من راعي قديم إلى قاضي حاكم، أشبه ما يكون بالقاضي سليمان، لكنه من نوع سماوي.
وهكذا فالمسيحية، في حين أنّ جذورها تمتدّ عميقاً في ميثولوجيا الشعب اليهودي، هي نتاج أوروبا. فقد نشأت وترعرعت في قلب الإمبراطورية الرومانية، وفي مدينة روما بالتحديد. ويمكننا العثور على الظروف المادية التي أسّست لظهور المسيحية خلال مرحلة انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها.
لقد أصبح عمل العبيد وفيراً جداً لدرجة أنّه أجبر الرومانيين الأحرار من الطبقة العاملة على ترك أعمالهم والتنحّي جانباً. فقد استولى العبيد على عقاراتهم. لذلك أصبح الرومان الفقراء في المدن الكبرى من دون عمل. حتى أنّه قد تمّ تحرير العديد من العبيد لانعدام الحاجة إليهم. كانت الدولة هي المسؤولة عن إطعام هذه الكتلة من العمال العاطلين. أمّا الدعاية الجديدة: المسيحية، التي أخبرتهم أنّ "العبد صالحٌ كسيّده"، قد لاقت الكثير من الإعجاب عند طبقة العبيد والجماهير العاطلة عن العمل. هذه كانت ديانتهم، الديانة التي تقول: ((طوبى للفقراء، فمملكتهم في السماء)). وقالت للطبقة العمّال العاطلون والمتضوّرون جوعاً ((طوبى للجوعى الآن، ستشبعون)). ولكبح العبد قالت له: ((طوبى للذين يبكون الآن، فهم سيضحكون أخيراً)). فالجنّة هي مكان للفقراء، وليس للأغنياء الجبابرة والطغاة. لقد بشّرت المسيحية: ((حقاً أقول لكم: أنّ الغنيّ لن يدخل الجنّة، فمن الأيسر أن يمرّ جمل من سمّ الإبرة، على أن يدخل غنيٌ مملكة الرب)).
سمع العبيد المحرّرون والبروليتاريون العاطلون في المدن الكبرى لهذه الدعاية من الدّعاة المبشّرين المسيحيين. لم يكن لديهم أي أمل هنا على الأرض. فالطبقة البروليتارية في تلك الأيام لم تكن مساهمة في عملية الإنتاج. لم يكونوا يشاركون في الأعمال. فأماكنهم ملأها عمال من طبقة العبيد. لم يعودوا يملكون شيئاً في هذه الحياة.
بينما طبقة البروليتاريين، طبقة العمّال المأجورين، هي من تملك مفاتيح المستقبل بأيديها. فطبقتنا [البروليتاريا] هي التي تواصل عملية الإنتاج. من تنظيف الأرضيات في المعامل الحديثة، إلى أعلى مدير تنفيذي فيه، الصناعة الآن مستمرة وقائمة بفضل العاملين غير المالكين، البروليتاريين، الأيدي العاملة المأجورة. بينما البروليتاريين الرومان كانوا مستبعدين تماماً عن عملية الإنتاج. لم تكن هناك آلات في تلك الأيام، باستثناء الآلة البشرية: العبيد.

كانت المسيحية، في بدايتها، ديانة للعبيد حصرياً. ومع مرور الوقت، قد أحكمت قبضتها على الجماهير وعامة الناس لدرجة لم تعد معها الطبقة الحاكمة قادرة على تجاهلها. حاولوا إخمادها بالنار والسيف، لكنّ كل محاولاتهم باءت بالفشل. كان الجوّ مناسباً لها. نضجت الظروف الاجتماعية وباتت جاهزة. لم يكن هناك نظام اجتماعي أعلى سيظهر للعيان خارجاً من العبودية الرومانية، كما لا يظهر أي شيء اليوم من عبودية الأجر. لم يكن أمام العمّال أي أمل على الأرض، بل كان هناك وعد بالسعادة فيما وراء القبر. كانت الإمبراطورية الرومانية بكاملها تموت وتتداعى. لقد اندثرت من الوجود بالكامل. لقد قام أحد الأباطرة _قسطنطين_ بما كان محتوماً. لقد اعتنق المسيحية. وتحوّلت بذلك المسيحية إلى دين رسمي، دين للسادة، وبقيت كذلك منذ ذلك الوقت.